للبحث الدقيق يمكنك استخدام البحث المتقدم أدناه

يعتمد البحث السريع على الكلمات الموجودة داخل عنوان المادة فقط، أما البحث المتقدم فيكون في كافة الحقول المذكورة أعلاه

انتحار عالم ياباني يشعل الجدل حول الأمانة العلمية

  • الكاتب : د. طارق قابيل

    أستاذ التقنية الحيوية المساعد كلية العلوم والآداب ببلجرشي جامعة الباحة-المملكة العربية السعودية.

  • ما تقييمك؟

    • ( 5 / 5 )

  • الوقت

    01:00 م

  • تاريخ النشر

    14 أغسطس 2014

أشعل خبر انتحار العالم الياباني المرموق "يوشيكي ساساي" يوم الثلاثاء الماضي، الجدل حول الأمانة العلمية وشكل انتحاره صدمة كبيرة لجميع المهتمين بالبحث العلمي على مستوى العالم، وأول سؤال ورد لأذهان المتابعين للشبكات الاجتماعية، وتردد بشكل كبير هو: هل يفعلها أحد في بلادنا العربية، وهل يعتذر المخطئ على الأقل عن خطئ علمي أو نشر بحث ملفق لم يستوف شروط الدقة والأمانة العلمية اللازمتين لأي بحث متخصص، ليبرئ ساحته لدى العامة؟ وبقدر الصدمة الكبيرة التي أصابت المجتمع العلمي، إلا أن الجميع لم يستطيعوا أن يخفوا إعجابهم بفرط تحمل هذا الباحث المرموق للمسؤولية واستعداده لأن يضحى بحياته كاعتذار عن خطأ لا يكاد يشعر به العديد من المشتغلين بالبحث العلمي في عالمنا العربي، لأن الانتحار في اليابان ليس كأي انتحار، بل هو قرار مصيري هام للغاية يتخذه الشخص للإعراب عن تحمّله للمسئولية، وليمسح الخزي والعار وهو بمثابة اعتذار للجميع عن خطأ جسيم تم ارتكابه، وعادة ما يمتدح فاعله لأنه قدّم حياته في سبيل ذلك.

"يوشيكي ساساي"

لقد بدأت معرفتي بعالم الأحياء المنتحر "يوشيكي ساساي"، والمختص في علوم الخلايا الجذعية وهندسة الأنسجة، أثناء ترجمتي لمقال لدورية "نيتشر" الطبعة العربية تحت عنوان: "صانع الدماغ" نشر في عدد شهر أكتوبر 2012، ثم تلى ذلك ترجمة لعدة ملخصات بحوث هامة نشرت في نفس المجلة في مجال هندسة الأنسجة، وكان يتردد فيها اسمه بكثرة. وكان "ساساي" نائباً لمدير مركز "ريكن" لعلم الأحياء التطوري، و أحد أعضاء فريق علمي بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة الأمريكية، الذين نشروا بحثاً بدورية "نيتشر" البريطانية في يناير الماضي، وأعطى هذا البحث أملاً في استبدال الخلايا المتضررة واستنبات أعضاء بشرية جديدة. وأشرف "ساساي" على عمل كبيرة الباحثين، "هاروكو أوبوكاتا"، وجذبت دراساتهم اهتمام وسائل الإعلام العالمية، ولكن أثيرت تساؤلات حول وجود تجاوزات في الأبحاث بعد ذلك.

وقد أعجب باحثون كثيرون حول العالم بموهبة "ساساي" خضراء الأصابع في دفع الخلايا الجذعية العصبية للنمو كهياكل مفصلة متميزة. وقد زرع طبقات الأنسجة الحساسة من قشرة الدماغ، والغدة النخامية الأولية، صانعة الهرمونات. وكان في طريقه إلى إنماء المخيخ، وهو جزء الدماغ الذي ينسق الحركة و التوازن. ويقول "لوك لينز"، عالم الخلايا الجذعية بجامعة بروكسل الحرة عن أبحاثه: "هذه الأوراق البحثية قدمت أهم سلسلة مقروءة بنهم من الأوراق البحثية المرتبطة بالخلايا الجذعية في السنوات الأخيرة". ويشير ساساي أحياناً إلى دوره كـ«خاطبة» (في الثقافة اليابانية) التي تعرف أنه بعد جمع اثنين من الغرباء، ينبغي لها أن تتركهما وحدهما. وكما يقول: «إنهم يعرفون ما يجب القيام به»، وأضاف: «أن الخلايا تتفاعل بطريقة حساسة، وإذا كانت الإشارة الخارجية قوية جداً، فستتجاوز الإشارات الداخلية».

وتتخطى أبحاث "ساساي" هندسة الأنسجة، لأنها تناولت العديد من الأسئلة التي حيرت علماء البيولوجيا التطورية لعدة عقود. مثل كيف تستطيع الخلايا الجذعية الجنينية المتكاثرة تنظيم نفسها بسهولة إلى هياكل معقدة من الجسم والدماغ؟ و هل يقود تكوين الأنسجة برنامج وراثي فعلي للخلايا، أو يتشكل بواسطة إشارات خارجية من قبل الأنسجة المجاورة؟ و من خلال الجمع بين الحدس والتجربة والخطأ بصبر، وجد "ساساي" أنها تقتضي توازناً دقيقاً من كليهما، حيث هيأ بيئات محكومة تغذي الخلايا بإشارات فيزيائية و كيميائية، وأطلقت للخلايا العنان للقيام بما عليها وتنظيم أنفسها بحسب الحالات. وقد تجد أعمال "ساساي" تطبيقات طبية مثل تلخيص التطور الجنيني في ثلاثة أبعاد، وهو يولد خلايا مفيدة سريرياً مثل المستقبلات الضوئية بزخم أكبر وكفاءة أكثر من المزرعة ثنائية الأبعاد، وتسكنهم في معمار يعكس صورة الجسم البشري. وحاول "ساساي" ومعاونيه زرع شبكية العين المستنبتة في المختبر لدى القرود والفئران والبشر. وكان يرى أن الخلايا الجذعية الناضجة في مزرعة ثنائية الأبعاد قد تؤدي إلى ‹الجيل القادم› من العلاج، لكن أساليبه ستؤدي إلى علاجات الجيل القادم والجيل الذي بعده بإذن الله.

درس "ساساي" الطب كالعديد من أفراد أسرته. لكنه سرعان ما أصبح محبطاً لافتقاد الفهم الأساسي بهذا المجال، خاصة عندما يتعلق الأمر بحالات الأعصاب. وكان يفكر أنه «بدون معرفة الدماغ، لا يستطيع الطبيب أن يفعل الكثير بالنسبة للمريض وستبقى العلاجات دائما سطحية». وكما يبدو، ليست هناك طريقة أفضل لمعرفة الدماغ سوى دراسة كيفية نشوئه وتكوين تضاعيفه لدى الجنين. وقال "ساساي": «إنها منظومة مركبة و عادة ما تكون المنظومات المركبة فوضوية». «لكنه أحد أكثر المنظومات ترتيباً». لقد أراد أن يعرف كيفية السيطرة على هذه المنظومة بالغة التفصيل.

وقبل "ساساي" عملاً بحثياً لما بعد الدكتوراه بجامعة كاليفورنيا الأمريكية، لكن هذا المشروع تعثر في بدايته، عندما سرقت أمواله و جوازات السفر بالمطار في طريقه إلى كاليفورنيا. و يقول عالم البيولوجيا التطورية المشرف عليه "إيدي دي روبيرتس": «استصدر جوازات سفر جديدة و في غضون شهر أنتج المستنسخات، التي أعطتنا جين "كوردين" الشهير. و قد اكتشف "ساساي" وزملاؤه أن بروتين "كوردين" هو الإشارة التطورية الرئيسة الصادرة عن منظم "سبيمان" فبدلا من دفع الخلايا المجاورة لتصبح خلايا عصبية، وجدوا أن "الكوردين" يوقف الإشارات التي من شأنها أن تحولها إلى نوع آخر من الخلايا وساعد العمل على إنشاء نموذج أساسي للحث العصبي. وأحدث "ساساي" تغيرات طفيفة بظروف مزرعة الأنسجة لدفع الخلايا للسير بطريق النمو. فقام بهندسة جينات فلورية ‹جينات مراسلة› وراثيا في الخلايا الجذعية بحيث يتم التعبير عنها عندما تتمايز الخلايا إلى النوع المطلوب - خلايا السلائف الشبكية في هذه الحالة - وتكشف ما إذا كان النظام يعمل كما هو مطلوب. وقال "ساساي": «إن نجاحنا يعتمد على معرفة كيف أن تعديلات طفيفة يمكن أن تؤدي إلى تغيير جذري». ظهر أن كل ما تطلبه زراعة شبكية العين عدد قليل من التعديلات، مثل خفض في تركيز عوامل النمو وإضافة عنصر قياسي لمزرعة استنبات الخلايا يسمى "متريجيل" والنتيجة تحاكي بشكل وثيق نمو العين في الجنين.  واستحداث نفس النتائج العملية مع الخلايا البشرية كانت الخطوة التالية الواضحة، وإن لم تكن البسيطة. وكان "بيتر كوفي"، طبيب العيون والأعصاب بكلية لندن الجامعية، قد حاول اتباع وصفة ساساي لتنمية الكؤوس البصرية في الخلايا البشرية، لكنها محاولة باءت بـ«فشل كارثي» كما يقول "كوفي".

وضع ساساي الأنسجة العصبية الأكثر تركيباً نصب عينيه. في نوفمبر الماضي، أفاد أنه قد تم تكوين جزء من الغدة النخامية، و هو نسيجه المستنبت «الأكثر تعقيدا» حتى الآن. تنشأ الغدة النخامية في الجنين عندما يتم دمج اثنين من الأنسجة المختلفة لتكوين هيكل شبيه بالكيس. تمكن ساساي إعادة هذا باختصار في المختبر جزئيا من خلال البدء مع أكثر من ثلاثة أضعاف الخلايا الجذعية الجنينية زيادة على ما كان يستخدم لاستنبات شبكية عين الفأر؛ يبدو أن هذا التعديل يزيد مستويات الإشارات التي تتبادلها الخلايا. ولدى زرع هذا الجزء (المستنبت من الغدة النخامية) لدى فئران نزعت غددها النخامية، استعادت الأعضاء الأولية نظام الغدد الصماء وأنقذت الفئران. كذلك، قد يوفر هذا العمل البحثي مددا من الخلايا النقية المتخصصة بنهاية المطاف، ويمكن استخدامها لعلاج اضطرابات الغدد الصماء. كان "ساساي" يرغب في تحسين جهوده المبكرة باستنبات غدة نخامية أفضل، ومزودة بإمدادات الدم؛ واستنبات قشرة الدماغ بطبقات أنسجتها الست، ومستقبلات ضوئية ناضجة بما يكفي للكشف عن الضوء. لكن مهمته الرئيسة التالية هي زراعة واستنبات المخيخ، التي ستشمل استنبات وإدماج ثلاثة أنسجة من أصول جنينية مختلفة. حاول "ساساي" استحضار الجو المناسب للاستنبات. وقال "ساساي": «عندما يلتقي صبي بفتاة، فإنهما يبدآن قصتهما – و لكن ليس في قاعة كبيرة ممتلئة بالناس». «نحتاج لوضعهما بشاطئ أو مرقص. نظامنا ببساطة هو خلق هذه البيئة».

كان يخطط "ساساي" بنهاية المطاف لأن يستنبت الدماغ كله. لكنه لا يقصد بناء دماغ كامل، وهي خطوة من شأنها أن تكون بالغة الصعوبة ومحفوفة بالمخاطر أخلاقياً، بل كان يريد أن يقف على كيفية عمل أجزاء الدماغ، مع قدرتها الملحوظة على النمو المستقل والتنظيم، والتجمع والانطواء في هيكل له هذه التعقيدات الهائلة. وبالطبع لم يمهله القدر لتحقيق أحلامه على المستوى البحثي بعد كارثة سحب البحث العلمي من دورية "نيتشر". وكان "ساساي" نائبا لمدير المعهد الحكومي للعلوم الطبيعية "ريكين" في اليابان، وأشرف على عمل كبيرة الباحثين "هاروكو اوبوكاتا" الذي أحدث ضجة عندما نشر في دورية "نيتشر" العلمية البريطانية في عدد يناير 2014 وجاء في الورقتين البحثيتين انهما توصلا إلى طريقة بسيطة لتنمية أنواع مختلفة من الأنسجة من الخلايا الحية بواسطة حمّام حمضي وبعد نشر هذه البحوث حصلت "اوبوكاتا" على شهرة واسعة، ولكن بعد مضي بعض الوقت بدأ العديد من العلماء يشكون في مصداقية النتائج التي ذكرها "ساساي" و"ابوكاتا".

البحث القاتل!

في عام 2006، اكتشف باحثون يابانيون طريقة للحصول على خلايا لها القدرة الجنينية على التحول تقريباً إلى أي نوع من خلايا جسم الثدييات.. تلك المعروفة الآن باسم الخلايا الجذعية المحفزة متعددة القدرات. وفي العدد الصادر في 30 يناير 2014 من مجلة “نيتشر" الطبعة العالمية، أعلن فريق آخر من الباحثين اليابانيين أنهم قد توصلوا إلى طريقة بسيطة للغاية – وهي متمثلة في تعريض الخلايا للإجهاد، ومقياس منخفض للأس الهيدروجيني- للحصول على خلايا أكثر مرونة من الخلايا الجذعية المحفزة متعددة القدرات بشكل أسرع وأكثر فاعلية. وأكد العلماء أن الضغط على الخلايا، أو إغراقها فقط في وسط حمضي يمكن أن يدفعها إلى أن يعاد برمجتها إلى الحالة الجنينيّة، أو بمعنى أبسط فالماء الحمضي يوفر طريقاً سهلاً للحصول على الخلايا الجذعية.

وعلق "يوشيكي ساساي"، الباحث في مجال الخلايا الجذعية و المؤلف المشارك لتلك الأبحاث بقوله: "إنه شيء مدهش. لم يكن ليخطر ببالي مطلقاً أن يكون للإجهاد الخارجي مثل هذا التأثير". و استغرقت "هاروكو أوبوكاتا"، باحثة الخلايا الجذعية صغيرة السن بالمركز نفسه، خمس سنوات لتطوير تلك الطريقة، و لإقناع "ساساي" وآخرين بأنها ناجحة. «كان الجميع يؤمنون بأنها مجرد عيب. كانت تلك الأيام أياماً عصيبة»، حسبما قالت "أوبوكاتا." وأكدت "أوبوكاتا" إن فكرة استخدام إجهاد الخلايا من أجل تحويلها إلى خلايا متعددة القدرات خطرت لها حين كانت تستزرع الخلايا، ولاحظت أن بعضها حين يدفع خلال أنبوبة شعرية ينكمش إلى حجم يماثل حجم الخلايا الجذعية. و قررت "أوبوكاتا" أن تجرب أنواع مختلفة من الإجهاد، مثل الحرارة، وتجويع الخلايا، أو وضعها في بيئة عالية المحتوى من الكالسيوم. كانت هناك ثلاثة مؤثرات: سُمّ بكتيريّ له القدرة على إحداث ثقوب بجدار الخلية، و التعرض لوسط ذي أس هيدروجيني منخفض، والضغط الفيزيائي على الخلايا- قادرة على جعل الخلايا تظهر علامات التحول إلى خلايا متعددة القدرات.

لكن كي تُنعت الخلايا بتعدد القدرات، لا بد لها أن تظهر القدرة على التحول إلى جميع أنواع الخلايا. ويتحقق ذلك عن طريق حقن خلايا مميزة استشعاعيه في جنين فأر. وإذا كانت تلك الخلايا المحقونة متعددة القدرات، فإن الخلايا الاستشعاعية سوف تظهر في جميع أنسجة الفأر الناتج عن تلك التجربة. اتضح بعد ذلك أن تلك التجربة أصعب مما تبدو عليه، و تطلب ذلك تغييراً في النهج المتبع. و تم إنتاج مئات الفئران باهتة الاستشعاع بمساعدة "تيروهيكو واكاياما"، الرائد في مجال استنساخ الفئران بجامعة "ياماناشي" باليابان. اقترح "واكاياما"، الذي كان قد ظن في البداية أن مصير المشروع سيؤول على الأغلب إلى «جهد ضخم بلا طائل»، أن يتم إجهاد خلايا كاملة التميز و لكن من فئران حديثة الولادة، بدلاً من الفئران البالغة. نجح ذلك في إنتاج جنين فأر مستشع بلون أخضر فاقع.

وقد كانت آمال "أوبوكاتا" كبيرة في أن يكون فأراً مستشعّاً كافياً لتنال الفكرة القبول. وقد تم رفض المقال عدة مرات، كما تقول "أوبوكاتا". ولإقناع المتشككين، كان على "أوبوكاتا" إثبات أن الخلايا متعددة القدرات هي نتاج تحول خلايا بالغة، وليست خلايا متعددة القدرات موجودة من قبل. و عليه قامت "أوبوكاتا" بإنتاج خلايا متعددة القدرات عن طريق تعريض الخلايا التائية للإجهاد، وهي نوع من خلايا الدم البيضاء التي يُعرف نضوجها من خلال تعرض جيناتها لعملية إعادة ترتيب. كما قامت "أوبوكاتا" أيضاً بتسجيل عملية تحول الخلايا التائية إلى خلايا جذعية بالفيديو. أطلقت أوبوكاتا على تلك الظاهرة "اكتساب قابلية تعدد القدرات عن طريق التحفيز الخارجي" (STAP).

كانت "أوبوكاتا" قد بدأت الدراسة الحالية في معمل "تشارلز فاكانتي" العالم في مجال هندسة الأنسجة بجامعة هارفارد في كمبريدج، ماساتشوستس، بفحص خلايا كانت مجموعة "فاكانتي" البحثية تظن أنها خلايا متعددة القدرات تم عزلها من الجسم، لكن النتائج التي توصلت إليها كانت تشير إلى تفسير مختلف.. تلك الخلايا متعددة القدرات تتولد حين يتعرض الجسم إلى إجهاد فيزيائي. «إن إنتاج هذه الخلايا ما هو إلا الطريقة التي اختارتها الطبيعة للاستجابة إلى المؤثرات المؤذية»، حسبما يقول "فاكانتي"، الباحث المشارك في الأبحاث الأخيرة. و تُعدّ أهم نتائج تلك الدراسة أن الخلايا التي تنتج بطريقة «اكتساب قابلية تعدد القدرات عن طريق التحفيز الخارجي» يمكنها أن تنمو أيضاً إلى نسيج مشيمي، وهي خاصية لا توجد في الخلايا الجنينية ولا في الخلايا الجذعية المحفزة متعددة القدرات. يقول "واكاياما" إن هذا قد يحسن من تقنية الاستنساخ بشكل هائل.

في صورتها الحالية، تتطلب تقنية الاستنساخ الحصول على بويضات غير مخصبَة، ثم زرع نواة من خلية الواهب بداخلها، إنماء الأجنة في المختبر (خارج الرحم)، ثم زرعها بداخل رحم أم بديلة. وإذا كانت الخلايا المولدة بالطريقة الجديدة قادرة على خلق مشيمتها الخاصة، فإنه يمكن نقلها إلى رحم الأم البديلة مباشرة. لقد قامت "أوبوكاتا" – حسب البحث المنشور - بإعادة برمجة لعديد من أنواع الخلايا، منها خلايا المخ، والجلد، والرئة، والكبد، مما يشير إلى أن التقنية الجديدة سوف تنجح مع أغلب ـ إن لم يكن جميع ـ أنواع الخلايا. تقول "أوبوكاتا" إنه، في المتوسط، تنجو %25 من الخلايا من الإجهاد، في حين تتحول %30 منها إلى خلايا متعددة القدرات، وهو معدل أعلى من معدل تحول الخلايا الجذعية المحفزة متعددة القدرات الذي يصل إلى %1، ويستغرق عدة أسابيع لتخليق مثل تلك الخلايا. وكانت "أوبوكاتا" تريد استخدام تلك النتائج لدراسة العلاقة بين إعادة البرمجة الخلوية ونشاط الخلايا الجذعية داخل الجسم. وتحاول "أوبوكاتا" أيضاً أن تجعل تلك التقنية تنجح مع الخلايا البالغة من الفئران والبشر.

وكان "ساساي" نائبا لمدير المعهد الحكومي للعلوم الطبيعية "ريكين" -  في اليابان، وأشرف على عمل كبيرة الباحثين "هاروكو اوبوكاتا" الذي أحدث ضجة عندما نشر في دورية "نيتشر" العلمية البريطانية في عدد يناير 2014 وجاء في إحدى الورقتان البحثيتان انهما توصلا إلى طريقة بسيطة لتنمية أنواع مختلفة من الأنسجة من الخلايا الحية بواسطة حمّام حمضي وبعد نشر هذه الورقة البحثية حصلت "اوبوكاتا" على شهرة واسعة، ولكن بعد مضي بعض الوقت بدأ العديد من العلماء يشكون في مصداقية النتائج التي ذكرها "ساساي وابوكاتا" في الورقة البحثية. خضعت الورقتان البحثيتان اللتان تصفان تقنية الحمّام الحمضي للمزيد من التدقيق، بعدما وجد التحقيق الذي قام به المعهد أخطاء في المنهج العلمي المستخدَم. وتناولت الورقتان البحثيتان تقنية جديدة، يمكن من خلالها إعادة برمجة الخلايا البالغة لتحويلها إلى خلايا جنينية عن طريق تعريضها للإجهاد. وقد كشفت المؤسسة التي تنتمي إليها المؤلفة الرئيسة وجود «أخطاء جسيمة» بمنهجية الورقتين، ليتبع ذلك إثارة للشكوك حول صحة أطروحة الدكتوراه للمؤلفة، والخلايا المستخدمة في الدراسة.

أدّت الرغبة في إنهاء الجدل حول تقنية «اكتساب تعدد القدرات بفعل المحفزّات» إلى التحقيق في هوية الخلايا في الورقتين البحثيتين. فقد ساعد "تيروهيكو واكاياما" ـ من جامعة "ياماناشي"، وهو كبير مؤلفي الورقة الثانية ( H. Obokata et al. Nature 505, 676-680; 2014) ـ في اختبار تعدد القدرات للخلايا الجذعية التي أنتجتها "أوبوكاتا"، وذلك عن طريق حقنها في أجنة الفئران. وبتحولها إلى أنواع مختلفة من الخلايا داخل هذه الفئران، أثبتت الخلايا أن لديها القدرة النمائية التي وعدت بها التقنية، لكن "واكاياما" أرسل الخلايا التي أعطته إياها "أوبوكاتا" إلى مؤسسة مستقلة؛ لإجراء تحليل وراثي؛ لمعرفة ما إذا كانت الخلايا بالفعل تنتمي إلى تلك التقنية، أم لا. يقول "واكاياما" متسائلًا: «ما الذي حَقَنْتُهُ في تلك البلاستيولات؟ هذا هو ما أريد أن أعرفه أكثر من أي شيء آخر».

وفي يوم 14 مارس الماضي، أعلنت منظمة "رايكن"، وهى أكبر منظمة بحثية في اليابان والتي تدير مركز علم الأحياء التطوري في مدينة "كوبي"، حيث تعمل المؤلفة الأولى للورقتين البحثيتين والعديد من زملائها، النتائجَ المرحلية لتحقيقاتها في مزاعم عن وجود مفارقات منهجية بمحتوى الورقتين. وقد نصحهم أحد محققي منظمة "رايكن" بسحب الورقتين البحثيتين. وقد بلغت تطورات هذا الأمر إلى أن المحققون شَكَّكَوا في جودة أطروحة "أوبوكاتا" للدكتوراه، والتي هي بالفعل قيد التحقيق من قبل الجامعة التي منحتها. وصرّح أحد المؤلفين المشاركين في الورقتين البحثيتين حول إعادة برمجة الخلايا أنه سيرسل بعض الخلايا التي نتجت من التجارب كي يُتحقَّق منها من قبل طرف مستقل.

وقد تصدرت الورقتان البحثيتان عناوين الصحف في أنحاء العالم عندما نُشِرَتا في دورية نيتشر في 30 يناير الماضي (H. Obokata et al. Nature 505, 641-647 and 676-680; 2014). وتعد التقنية المقدمة، تحت اسم اكتساب تعدد القدرات بفعل المحفزّات (STAP)، تقنية هامة لأن الخلايا التي أُعيدَت برمجتها إلى الحالة الجنينية هي خلايا مثالية لدراسة تطور مرض أو فعالية الأدوية. لكن في غضون أسابيع، تعرضت الورقتان البحثيتان لهجوم من قبل العلماء بسبب استخدام المؤلفين لعدة صور مكررة، وكذلك من قبل العلماء الذين لم يتمكنوا من إعادة إنتاج العمل، مما دفع بمنظمة "رايكن" للتحقيق في الأمر.

في المؤتمر الصحفي، أشارت لجنة من خمسة أشخاص، من بينهم مدير عام منظمة "رايكن"، الفائز بجائزة نوبل "ريُوجي نُويُوري"، إلى ست مشكلات وردت بالورقتين. تم صرف النظر عن خطأين، باعتبارهما غير مقصودين، لكن اعتُبرت أربعة أخطاء أخرى أكثر خطورة، بما في ذلك صورة لهلام التحليل بالفصل الكهربائي الذي يبدو أنه تمت إضافة خط آخر إليه في وقت لاحق، وكذلك الانتحال في جانب من النص الذي يشرح المنهجية العلمية المستخدمة. لم تقدم اللجنة إجابات واضحة حول ما إذا كانت التقنية المكتشفة حقيقية، أم لا، ولكن أشارت إلى أن المؤلف المشارك "هيتوشي نِيوا" من منظمة "رايكن" حاول تكرار التجربة بالمنهج نفسه. كما أضافت اللجنة أنه لم تكن هناك علامات على الغش. وقد أخبر عضو اللجنة "ماساتُوشي تاكِيشي" ـ مدير عام مركز الأحياء التطوري الصحفيين أن المؤلفين الثلاثة من المعهد – "أوبوكاتا" و"نيوا" و"يوشيكي ساساي" - قد وافقوا على سحب الورقة البحثية بناءً على طلبه، لكن بياناً باللغة اليابانية، بالإنابة عن المؤلفين الثلاثة، أُلقيَ في المؤتمر الصحفي، أشار فقط إلى أنهم «يفكرون في سحب الورقة البحثية والاتصال بالمؤلفين من خارج مركز الأحياء التطوري لمناقشة هذا الاحتمال. وقد أوضح "تشارلز فاكانتي" ـ من كلية طب بهارفارد في بوسطن، ماساتشوستس، وهو كبير المؤلفين الذي وُجهت إليه المراسلات في الورقة البحثية الأولى (H. Obokata et al. Nature 505, 641-647; 2014)، أنه لا توجد لديه أي نية لسحب الورقة، ما لم تكن هناك أدلة دامغة على أن البيانات غير صحيحة.

ومما أضاف المزيد من الحيرة، اكتشفت نشرة "نيتشر نيوز" أن الصفحات العشرين الأولى من أطروحة "أوبوكاتا"، التي استكملت في عام 2011 في جامعة "واسيدا" في طوكيو، مأخوذة من كتاب الدليل التمهيدي لمعاهد الصحة الوطنية الأمريكية بخصوص الخلايا الجذعية، وكذلك أن إحدى الصور في جزء النتائج في الأطروحة مستنسخة من موقع تجاري على شبكة الأنترنت، دون الإشارة إلى مصدر الاقتباس. كما أخبر "فاكانتي" ـ الذي كان عضواً في لجنة المناقشة التي وافقت على الأطروحة ـ "نيتشر نيوز" قائلاً: "لم أزوَّد بنسخة من الأطروحة، ولم تُطلَب منِّي قراءتها". وفي الأسبوع الثاني من مارس الماضي، كتبت "أوبوكاتا" إلى أستاذ في جامعة "واسيدا"، مشيرة إلى أنها تريد أن تسحب الأطروحة، لكنها لم تطلب رسميّاً بعد سحب الأطروحة. وتمخضت جميع هذه الشكوك بسحب كافة المقالات التي نشرها "ساساي" و"ابوكاتا"، وبدأت التحقيقات في الموضوع، مع بقاء "ابوكاتا" مصرة على أن كل ما ورد في المقال صحيح. أما "ساساي" فكان أكثر حذراً منها، حيث اعتبر هذه الخلايا بأنها فرضية بحاجة إلى برهنة. وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير هي إعلان معهد "رايكن" أن «التحقيق، الذي أجراه توصل إلى أن "ابوكاتا" انتحلت واختلقت أجزاء من البحث، مما أثار الشكوك بشأن مصداقية العلم في اليابان بشكل عام.

وقدم "روجي نويوري"، الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء في 2001، رئيس معهد "ريكن" في اليابان اعتذاره في مؤتمر صحافي، وقال إن "المشكلة تكمن في أن باحثة غير ناضجة جمعت كمية ضخمة من بيانات البحث، وكان تعاملها مع هذه البيانات غير متقن جداً وغير مسؤول"، مضيفاً و هو ينحني بشدة: "أود أن أقدم اعتذاري عن المقالتين اللتين نشرتا في دورية "نيتشر" و اللتين شككتا في مسألة مصداقية المجتمع العلمي". و كان يشير إلى "أوبوكاتا"، والتي أضحت مشهورة بين عشية وضحاها في اليابان و في جميع دول العالم بعد نشرهما. و قال نويوري، في بيان له: "أريد في البداية أن أعرب عن خالص أسفي أن مقالات لعلماء في رايكن نشرت في مجلة "نيتشر" تسببت في التشكيك في مصداقية المجتمع العلمي." و أضاف "نحن نحقق في الأمر، ونعي أنه قد يتوجب علينا طلب حذف المقالات". و قالت الهيئة البحثية إنها لم تقرر بعد العقوبة التي قد تفرض على الباحثة.

وبعد شهور من الجدل المتواصل، خلص المعهد في أبريل الماضي إلى أن "أوبوكاتا" التي قادت الفريق البحثي، قد زورت الدراسات، و لقد كتبتُ مقالاً عن هذا الموضوع بجريدة "الوطن" تحت عنوان: "في البحث العلمي .. الاعتذار من شيم الكبار!" ذكرت فيه تفاصيل هذه المناقشات التي وصلت في نهاية الأمر لقيام دورية "نيتشر" مؤخراً بسحب البحثين العلميين الذين آثارا جدلاً ولغطاً كبيرين، و بعد أيام من هذا القرار فوجئ العالم بانتحار "ساساي"، بعد أن دخل في نوبة إحباط شديدة دفعت به للدخول إلى إحدى المستشفيات بعدما عانى من الضغوط و أصبح لا يستجيب كثيراً لأسئلة الإعلام أثناء الجدل بشأن البحث الذي أجراه الفريق، ثم انتحاره في النهاية بعد شهور من الضغوط والإرهاق. و قالت الشرطة ومعهد "رايكن" العلمي الذي كان يعمل به "ساساي" إنه تم العثور على جثة العالم في وقت مبكر يوم الثلاثاء الماضي. و قال متحدث باسم الشرطة "إنه انتحار مؤكد. كان مشنوقا".

وبالطبع لم يمهل القدر "ساساي" لتحقيق أحلامه على المستوى البحثي بعد كارثة سحب البحث العلمي من دورية "نيتشر". ولقد أقدم "ساساي" على الانتحار لأنه ينظر للانتحار في اليابان بكثير من التبجيل و الاحترام كونه آخر ما يتبقى للمرء من مظاهر الكبرياء و الاعتزاز بالنفس. و اليابان هي الدولة الوحيدة في العالم التي لها طريقة معينة في الانتحار مسجلة باسمها، وهي طريقة "الهاراكيري" وتعني "قطع البطن". وأتت في الأصل من ثقافة "الهاراكيري" التي اشتهر بها المحاربون القدماء "الساموراي". و تُصدر الحكومة اليابانية قبل نهاية كل عام ميلادي تقريراً فريداً يدعى "سجل الانتحار الوطني". وهو سجل يرصد مؤشر الانتحار في المجتمع الياباني، وعدد المنتحرين اليابانيين يزيد على الثلاثين ألف شخص في العام الواحد، أي بمعدل انتحار شخص كل 18 دقيقة. و هي من أعلى النسب في العالم والنسبة الأعلى في الدول الصناعية الكبرى. وإذا أضافنا عدد محاولات الانتحار التي يخفق منفذوها في التخلص من حياتهم فيها و هي أكثر من حالات الانتحار نفسها، نجد أننا أمام ظاهرة خطيرة و منتشرة في اليابان.

و من أشهر حالات الانتحار، انتحار أشهر كتاب اليابان المعاصرين "يوكيو ميشيما" في عام 1970. وانتحار وزير الزراعة الياباني "توشيكاتسو ماتسؤكا" على خلفية اتهامات له بالفساد واستغلال المنصب الوظيفي في أعمال غير مشروعة. وخلال الحرب العالمية الثانية فوجئ العالم بظهور قوات "الكاميكازيه" التي هي عبارة عن فرق خاصة تقوم بعمليات عسكرية انتحارية ضد الجيش الأمريكي من أجل الإمبراطور الذي يعتبرونه إله ويعتبرون أن بذل النفس من أجله غاية المجد والشرف. إذاً الانتحار سواء بالهاراكيري أو بوسيلة أخرى هو بصفة عامة فعل ينّم على تحمل المسئولية وينم على الندم والأسف. وفي الماضي كان يمجد من ينتحر لهذه الأسباب لأن اليابانيين لا يؤمنون بالقضاء والقدر، فالمنتحر في أغلب الأحوال يعتقد أنه السبب في كل ما يجري له، و أن هناك حوله الكثيرون الذين يعانون بسببه سواء كانوا أهله أو مرؤوسيه أو رؤساءه أو حتى عامة الناس. وأن تخلصه من حياته هو عمل يقتضيه منطق الشرف والأمانة، وإنه بذلك سيريح ويستريح. خاصة أن أغلب اليابانيين الآن يؤمنون بتناسخ الأرواح، و أنه سيولد مرة أخرى في هذه الحياة وسيكون وضعه فيها بناء على أفعاله فيها فإن فعل خيراً فخير، وإن شراً فشر. ومثلما أن وراء كل عظيم امرأة، فإن وراء العالم المرموق المنتحر "يوشيكي ساساي" امرأة أيضا، لم تتحرى الدقة، و ضربت عرض الحائط بالأمانة العلمية، و التي أدت في نهاية المطاف لانتحار زميلها المشارك في هذا العمل لإحساسه بالندم و الخجل والعار، وحفاظاً على سمعة بلده العلمية، وهو يعتبر أن هذا أقل اعتذار ممكن عن جرمه الكبير في حق نفسه و بلده. و لقد ضرب "ساساي" أروع الأمثلة لتحمل المسؤولية الأدبية عن خطأ علمي جسيم، وضحى بحياته من أجل تصحيح هذا الخطأ حسب اعتقاده وعاداته و تقاليده.

وأتمنى أن تغزو ثقافة الاعتذار جميع دول العالم من الشرق إلى الغرب، و أن يدرك الباحثون جيداً قيمة البحث العلمي، وأن يحافظوا على سمعتهم العلمية و سمعة مؤسساتهم البحثية، وسمعة دولهم و مصداقيتها بين دول العالم مثلما يفعل اليابانيون، كما أتمنى أن يأخذ الباحثون مسألة الأمانة العلمية بمزيد من الجد و الحزم، و أن يفعلوا أي شيء في سبيل الحفاظ على مصداقيتهم العلمية، وأن يعتذر من أخطأ أو قصر في بحوثه، إذا تبين له أي خطأ علمي أو منهجي أو عملي في بحوثه المنشورة، وهي بالطبع ثقافة حميدة جديرة بالتقدير و الاحترام، و نتمنى لها الانتشار في الأوساط العلمية المحلية و العالمية.

 

البريد الإلكتروني للكاتبtarekkapiel@hotmail.com

هذا والموقع يساعد المؤلف على نشر إنتاجه بلا مقابل من منفعة معنوية أو مادية، شريطة أن يكون العمل متوفراً للنسخ أو النقل أو الاقتباس للجمهور بشكل مجاني. ثم إن التكاليف التي يتكبدها الموقع والعاملون عليه تأتي من مساعدات ومعونات يقبلها الموقع ما لم تكن مرتبطة بأي شرط مقابل تلك المعونات.

ترخيص عام

الموقع قائم على مبدأ الترخيص العام للجمهور في حرية النسخ والنقل والاقتباس من جميع المحتويات والنشرات والكتب والمقالات، دون مقابل وبشكل مجاني أبدي، شريطة أن يكون العمل المستفيد من النسخ أو النقل أو الاقتباس متاحا بترخيص مجاني وبذات شروط هذا الموقع، وأن تتم الاشارة إلى منشورنا وفق الأصول العلمية، ذكرا للكاتب والعنوان والموقع والتاريخ.

0 التعليقات

أضف تعليقك

التصويت